الاثنين، 3 ديسمبر 2012

الديموقراطية .. الخدعة الكبرى ..


لا أعرف تحديدا من هو أول شخص خبيث حقا أراد أن يخدع شعبه بلباقة (كعادة الحكام الديكتاتورين) فإبتدع هذا المصطلح أو إستعاده من مزابل ذاكرة التاريخ للأمم البائدة منذ آلاف السنين .. فكلمة ديموقراطية أصلها أغريقي (ديموس كراتس) وكما نعلم فأن الدولة الأغريقية هي حضارة وثنية بائدة ظهرت في فجر التاريخ أيام أن كان البشر لايزالون يعتقدون أن الأرض يحملها ثور عظيم على قرنه وأن الشمس والقمر وجميع الأجرام تدور حولها! ثم إندثرت هذه الدولة وجاء بعدها الرومان وأعقبهم عدة دويلات بعد ذلك (إندثرت هي الأخرى جميعها) ... ثم جاء هذا الأحمق وأقنع العالم المتطور بأنها هي الإسلوب الأمثل لحكم العالم .. اليوم .. وفي القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد!

أتذكر تفكه العقيد معمر القذافي وسخريته من الكلمة عندما سأله أحد المحاوريين عن معنى الديموقراطيه فأجابه أن أصل الكلمة مكون من مقطعين (ديمو) (كراسي) إي أن الحكام الظالمين وأعوانهم الفاسدين يستطيعوا أن يديموا بقائهم على كراسي حكمهم المتعسف عن طريق إستخدام هذا الإسلوب المخادع والذي تستطيع أن تقنع شعبك بأن نظام الديموقراطية هو حكم الشعب للشعب! والبلهاء فقط هم من يعتقدون أن مبدأ كهذا قابل للتطبيق في الواقع بنجاح!
كتبوا عنها كثيرا وألفوا فيها المؤلفات ووضعوا النظريات وأسهبوا في وصف جمالها وكمالها كذبا وخداعا .. وروج الإعلام الفاسد لهذه النظريات كثيرا .. وشغلوا الشعوب في صراعاتهم حولها .. لدرجة إنك إذا سألت إي شخص عادي في الشارع الآن ماهو أفضل نظام سياسي وماهي أفضل طريقة لحكم البشر؟ سيرد عليك بلا أدنى تردد أو تفكير ليخبرك بأنها بالطبع (الديموقراطية) وهو الرد المحفوظ دائما في الذاكرة من كثرة ما سمعت عنه.


وتعتمد الديموقراطية على فكرة غبية بسيطه وهو أن الحكم ليس لأي فرد ولا لمجموعة بعينها ولا حتى لأحزاب أو طوائف الشعب بل وليس لله! إنما الفيصل الوحيد والمعيار المتفرد هو (صناديق الإقتراع) فقط! إي شيئ يريد الحاكم أو حكومته تريد أن تفعله فلاشرعية لذلك إلا من خلال تلك الصناديق (السوداء). بغض النظر عما إذا كان هذا الشيئ الذي تستفتي فيه الناس حسنا أم سيئا .. حلال أم حرام .. ممكن أو غير ممكن .. جائز أم غير جائز أصلا! وبغض النظر عما إذا كان من تستفتيهم أصلا عندهم من العلم والإلمام بطبيعة هذا الموضوع وأبعاده وتفاصيله وتبعاته أم أنهم تم خداعهم من خلال إعلام موجه روج لهم قبل ذلك بأن الوهم حقيقة وأستغل بساطة عقولهم ليدفعهم للسير في الإتجاه الخبيث الذي يريده الحاكم وقد إستغل سذاجتهم فقط ليعطي لقراره المشروعية التي أرادها!


تحت مظلة الديموقراطية المزعومة هذه لا يكون الحكم للشعب كما يدعون إنما يكون الحكم الفعلي هو للجهة التي تستطيع أن تحشد أكبر قدر من أعداد المصوتين .. عن طريق رشوتهم بالمال أو بماديات وعينيات أو ببساطه عن طريق فرض سلطتها وسطوتها عليهم وإرهابهم وتخويفهم! وممارسات الحزب الوطني (الديموقراطي) البائد ليست عنا ببعيد وألاعيبه وتفانينه في تطبيق هذه الديموقراطية الخادعة.

ومن المفارقات العجيبة أن تجد نفسك أمام الخصم والحكم في نفس الوقت!فالحكومة التي من المفترض أنها تستفتي الشعب هي نفسها من تقوم بفرز الأصوات وإعلان نتيجة الإقتراع بدون أن يشهد أحد من ممثلي الشعب هذه العملية! إن هذا هو التزوير بعينه أو ما أسميه الإستعماء. ويذكرني هذا بمشهد من مسرحية محمد صبحي الشهيرة "وجهة نظر" حينما جمع مسئول المركز العميان جميعهم وطلب ممن يعترض أن يرفع يده فبعد أن رفع جميع العميان أيديهم رد عليهم المسئول يقول "لا أحد يعترض سواك؟!" فظن كل واحد منهم أنه هو الوحيد المعترض الرافع يده. ثم توعده المسئول بالتهديد والوعيد وبمعاقبته لأنه هو من يقوم بإثارة الفتن والمشاغبات بين زملائه فأسرعوا جميعهم بخفض أيديهم حتى لايقعوا تحت طائلة عقاب المسئول وتنفيذ تهديداته وبالطبع فقد كلا منهم الثقة في زملائه جميعا وظن في نفسه أنه هو المخلص الوحيد بينما البقية خونة جبناء عملاء!
إنها حقا مهزلة سواء تلك الفكرة المزعومة أو آليات تنفيذها المليئة بالثغرات والفجوات ..

هل يمكن مثلا أن تقوم الدولة بعمل إستفتاء بين الشعب لترى إذا كنا سنقيم صلاة العصر أم لا؟ وإذا حدث هذا فهل يمكن أن نتصور أن نتيجة الإستفتاء ستكون لا في دولة معظم شعبها مسلم ومتدين؟ !! هذا ما يمكن أن يحدث بسهولة في ظل النظام الديموقراطي المزعوم وسيراه العلمانيون أنه الإستفتاء الأكثر قربا لروح العلمانية السامية والليبرالية في أروع معانيها!!


"كل الناس سواء" هي كلمة حق يراد بها باطل فالواقع أنه ليس كل الناس سواء ويوجد بينهم من الفروقات مالا يعد ولا يحصى فهناك الرجل والمرأه الغني والفقير الأسود والأبيض المؤمن والكافر العبد والحر الصغير والكبير العاقل والمجنون العالم والسفيه الذي يفهم والذي لايفهم هذا في الظاهر بينما في الباطن فروقات أكبر وأعظم كالمشاعر العاطفية والأهواء الشخصية والحالات الإنفعالية .. الذين لهم مصالح شخصية والذين لاناقة لهم ولا جمل .. لكن من العجيب أنك تجد أن الديموقراطية تجمع كل هؤلاء في صندوق واحد وتساوي بين رأي كل هولاء وجميعهم رأيهم عبارة عن صوت إنتخابي واحد ولا وزن نسبي لمدى رجاحة عقلهم! ولا فضل حينئذ لأعرابي على عجمي ولا لأسود على أبيض ولو حتى بالتقوى!


قال أحد اللوردات الإنجليز : "لو أن رأي الأغلبية هو الأصلح لكان رأي عشرة من الحمير هو أفضل من رأيي أو رأيك في قضية ما!" وليس في هذا عنصرية أو إستعلاء طرف على طرف ولكنه ببساطة حقيقة ما فطرنا الله عليه وهو خلقنا هكذا .. فالله دائما يدفعنا لأن نستوعب الفرق بين الصغير والكبير بين الغني والفقير بين العالم والجاهل بين القوي والضعيف .. والأحكام الشرعية نفسها تفرق بين واجبات وحقوق الشخص في المجتمع تبعا للظروف المختلفة وعلى حسب الإختلافات بين البشر .. وكم خاطب الله أولو الألباب كثيرا والذين يعقلون.


إنكم إذا إستطعتم أن تسدوا جميع ثغرات الديموقراطية وتتفادوا جميع عيوبها ومسالبها وتفرضوا رقابة صارمة على جميع خطوات الإقتراع والفرز وتمنعوا الفساد والرشاوى وتنمنعوا الإعلام الموجه من التأثير على رأي الناخبين فكيف بالله عليكم أن تحلوا هذه المعضلة؟ كيف ستساوي رأي من يعلم بمن لا يعلم؟ الذي يفقه والذي لايفقه؟ الأمي والمتعلم؟ المثقف والجاهل؟ !! ويكون الحكم للتفوق العددي البحت عملا بالمثل القائل "العدد في اللمون"!!


لو أن مريضا يموت ونريد علاجا فعالا لإنقاذه فإننا نجمع بعض الأطباء المشهود لهم بالخبرة والكفاءة ويتم التدوال بينهم (كونسولتو) وقد يحدث بعض الخلاف في وجهات النظر بينهم فهذا ينصح بعملية جراحية فورية وهذا يعتقد أن بضع أقراص من دواء فعال كافية وبعضهم ينصح بمجرد حقنة .. ولكن تأكد من أن الرأي الذي سيستقر عليه أغلبهم بعد الحوار هو أفضل رأي وأفضل علاج لإنقاذ هذا المريض قبل أن يموت. هنا قلنا مجموعة من الأطباء الحكماء هم الذين يتشاورون في المشكلة الطبية ولم نقل أننا سنجمع أراء الأطباء والممرضات والعاملين في المستشفى والمرضى الأخرين وربما بعض عمال الصرف الصحي الذين تصادف وجودهم في المستشفى وقتها لإصلاح عطلا ما .. لنحدد العلاج الأفضل بناء على رأي الأغلبية! لأنك إذا فعلت ذلك سوف تخرج بنتيجة مفاداها موت المريض المحتم لأنك أشركت في الأمر من هو ليس مؤهل لللإدلاء بدلوه فيه.


ناهيك عن قلة الأدب وتطاول السفهاء على الحكماء ونابي الألفاظ التي يستخدمها العامة في الأسواق تجدها مطروحة على أذنك على طاولات الحوار وأمام عينيك على صفحات الجرائد والإتهامات بالعمالة والخيانة بل وبالكفر لكل من تسول له نفسه بأن يعارض رأي أو يكون له وجهة نظر مخالفة وكم من حرمات إنتهكت وأعراض خيض فيها بحجة حرية الرأي وإشراك السفهاء في الحوارات لأن هذا هو حقهم الذي كفلته لهم تلك الديموقراطية التعيسة .. !!


مالحل وما البديل؟

الشورى. برغم أن العلمانيين يحاولون إقصائنا عن ديننا كثيرا ويقنعوننا بأنه لادين في السياسة كما أنه لا سياسة في الدين .. مما دعاهم لإهدار كل ماورد في الدين من حلول قيمة وفعالة لجميع مشكلاتنا الحياتية حتى السياسي منها! إن ما حدث في ثقيفة بني ساعدة لهو أقرب مثال على مبدأ الشورى وكيفية تنفيذ آلياتها في المجتمع الرشيد. حينما إجتمع الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ونفر من عقلاء وأعيان المدينة وتشاوروا بينهم فيمن سيخلف النبي بعد وفاته ثم أستقر رأيهم على سيدنا أبو بكر بايعه جميعهم ثم خرجوا للناس والعامة بعد أن أستقر رأيهم بعد ذلك فبايعه الناس جميعهم أيضا وبذلك درئت فتنة عظيمة كانت يمكن أن تتسبب في تشتيت الأمة وحدوث ما لا يعلم مداه إلا الله.
الشورى هي أن يجتمع نفر محدود من عقلاء الأمة والمشهود لهم بالإخلاص والكفاءة والأمانه وتنزههم عن الأهواء والمصالح الشخصية وبتفويض من الشعب وهم من يقررون للأمة كلها ويحددون مصالحها وإتجاهاتها وهم من ينوبون عن الشعب في حكم الشعب ولا حاجة لنا بصناديق الإقتراع حينئذ.

محمد مصطفى

الأحد، 28 أكتوبر 2012

البحر



والدي كان يجيد السباحة وكم حكى لي إنه كان متفوقا على أقرانه دائما ويسبقهم جميعهم عندما كان شابا ... إعتادوا أن يذهبوا كل صيف إلى شاطئ سيدي بشر بالإسكندرية (كان هذا قديما قبل أن تتحول المنطقة إلى شاطئ شعبي) ويعقدوا هناك المسابقات, أيهم يصل إلى الجزيرة المقابلة أسرع (وتبعد حوالي خمسمائة متر تقريبا عن الشاطئ) وكان هو الفائز دائما! (نقلا عن روايته)

إعتدنا في كل صيف أن نذهب والعائلة لتمضية جزء من أشهر الصيف الحارة في أحد المصايف وخصوصا المعمورة التي كنت أحبها كثيرا ... عز على والدي أن يرى إبنه الأكبر لايجيد السباحة ويخاف من البحر لدرجة إني كنت أرتدي الطوق وأظل جالسا على الشاطئ الرملي ... أبني بيوتا وقصورا على الرمال ولا أرافقهم أبدا في دخولهم إلى عمق الماء وأحاول إختلاق الأعذار كلما دعاني أحدهم لمرافقتهم.

كنت في السادسة من عمري حينما إتفق والدي مع زوج عمتي (طبيب بشري) أن يستأجرا دلسوار (لوح خشبي يشبه القارب في تكوينه) ثم دعوني أن أشاركهم الرحلة الجميلة على متن الدلسوار وأقنعاني أنه لاداعي لإرتداء الطوق لأني سوف أكون جالسا طول الوقت على الدلسوار بينما سيكونا هما في الماء يدفعانه ويوجهانه ... وببرائة وتلقائية خلعت الطوق وجلست ثم بدءا يسحبان القارب نحو عمق البحر ... مرت دقائق سريعة أستمتعت فيها برؤية الشاطئ من بعيد وإبتعدنا عن زحمة وضوضاء المصطافين الذين كانوا قرب الشاطئ ثم فجأة وبدون إي مقدمات وجدت القارب ينقلب في الماء فوجدتني أنزلق من عليه ... حاولت التشبث به لكني لم أستطيع ....
لم أستوعب ماحدث ولكن وجدتني أغوص في الماء .... حاولت التنفس فلم أستطع وإذا بالماء يدخل من أنفي وفمي ويقتحم حلقي الى داخل صدري وبطني ... حاولت فتح عيني تحت الماء لأرى السطح ولكن لم أره! أحسست إني أغوص نحو القاع ... لم أرى سوى فقاقيع الهواء الصغيرة تتصاعد حولي بينما أغوص لأسفل وأدركت أني مقبل على الموت غرقا ... مرت لحظات قليلة ولكنها كانت طويلة وقاسية جدا بالنسبة لي ... أحاول أن أحرك ذراعي ورجلاي لكن لا شيئ يجدي فقد فقدت القدرة على التميز بين الأعلى والأسفل ... أريد أن أتنفس فأنا محتاج للهواء ولكن لاشيئ يدخل غير الماء ...أبحث عن أحدهما تحت الماء ولكن لا أراهما ... لم أرد أن أموت وحاولت أن أتعلق بالحياة وأدركت ساعتها إحساس الغريق الذي يريد أن يتعلق بأي شيئ ولو حتى بقشة ... دارت في رأسي الكثير من الأفكار في هذا الوقت الرهيب ... هل سأغرق؟ ماذا يعني الموت؟ وهل سيعودان للمنزل بدوني (إن عادا هما أصلا) وماذا سيقولان لأمي؟ وماذا ستفعل بدوني؟ وهل سيرث أخي الأصغر ألعابي وطوقي؟؟؟ ياله من محظوظ ...

وجدت يد تمتد من داخل الماء وجذبتني لأعلى من قدمي اليسرى سريعا ثم رفعاني فوق القارب وأمسك والدي بقدمي لأعلى بيينما جسدي معلق في الهواء ولكني لا أزال لا أستطيع التنفس ... سأختنق ... فظل زوج عمتي يربت بشدة على ظهري وبطني حتى أفرغت كل الماء الذي إبتلعته وأخرجت مافي رئتي ... ثم رقدت على متن الدلسوار مذعورا أعاني من الألام لا أفهم ولا أدري مالذي حدث ... وكانت تجربة عنيفة جدا وصدمة قاسية ...

حاولت الإختباء منهما بعد ذلك لكي لا أذهب البحر معهما فيلقياني في الماء مرة أخرى لكن دون جدوى ... ثم أقنعني والدي بأن أبدأ في تعلم السباحه لأنه الحل الوحيد لكي أنقذ نفسي (ومن سيكون معي) في المستقبل ولكي لا نتعرض للتجربة المرعبة مرة أخرى. لقد كنت محظوظا في المرة السابقة لوجود من يجيد السباحه معي وتم انقاذي ولكن كيف سيكون الحال إذا ماكنت بمفردي ولا أجيد السباحه فمن سينقذني حينئذ؟ فإقتنعت بكلامه ...

علمني خوفي من التعرض للغرق مرة أخرى السباحه.

ثم بدأ والدي تدريجيا في تعليمي التمارين البسيطه كالوقوف في الماء حينما لايكون لك طول وذلك عن طريق تبديل دفع القدمين للماء لأسفل فيظل الجسم مرتفعا لإعلى ... ثم تمارين النوم ممددا على سطح الماء عن طريق أخذ نفس عميق لملئ الصدر بالهواء فيصبح الجسم كالبالونه فيستطيع الطفو فوق سطح الماء ... ثم بعد ذلك تمارين التحريك فوق سطح الماء عن طريق تحريك اليدين والرجلين ومايسمى بالسباحه البريست والباك والفراشة .... أستغرق التعليم يومين فقط (يبدو أن الخوف من الغرق كان دافعا قويا لسرعة التعلم) ثم بدأت أرافقهم في رحلاتهم العميقة وإكتسبت الثقة والمهارة والسرعة تدريجيا ... بل وبدأت أحب نزول البحر في العمق وألاحظ المصطافين من حولي لأنقذ من يتعرض منهم للغرق ...

علمت نفسي بنفسي الغوص بدون معدات في المياه الضحلة عن طريق كتم النفس وتمرنت عليه كثيرا ووجدت إنه شيقا ومثيرا جدا أن تكتشف أعماق البحر وترى الجمال والروعة التي لا نرى مثيلا لها فوق سطح الماء وخاصة عند الغطس في أماكن تجمع الشعاب المرجانية وهويت الغطس بعد ذلك عندما كبرت وتعلمت الغوص بالمعدات وإسطوانات الأوكسجين والنيتروجين في المياه العميقة ... وبدأت الصلة بيني وبين البحر تزداد تدريجيا ... وبدأت أحتفظ ببعض الأسماك والكائنات البحرية في أحواض زجاجية أربيها وأراقبها جيدا لأدرس عاداتها وبيئيتها وأستمتع بحسن منظرها وأتعلم كيمياء وفيزياء وأحياء ماء البحر ....
لا أصدق العرافين مطلقا ولكني أتذكر من أيام الطفولة أيضا أن أحد العرافات ممن يدعون علم الغيب عن طريق وشوشة وقراءة الودع أقنعت إحدى قريباتي على الشاطئ بأن ترى حظها (وكانت تخشى أن يطلقها زوجها بسبب عدم الإنجاب!) فأخبرتها العرافة إنها ليس لديها مشكلة تماما وأن العيب في زوجها ... وهذا ما أتضح بالفعل بعد ذلك من نتائج الفحوصات والتحليلات الطبية! ثم حدث لي بعد ذلك في العشرينات من عمري حينما كنت أعاني من بعض المشكلات الطبية أخبرتني أيضا بعض هؤلاء العرافات بأن الدواء يكمن في مياه البحر وبرغم إعراضي عنها وهروبي منها إلا أنها صممت أن تخبرني بذلك دون أن أعطيها إي أجر ... وإختفت فجأه كما ظهرت فجأه ...

ما هذا الغموض والسحر الذي فيك؟ وهل أنت حقا جبارا عنيفا مخيفا تأخذ منا أحبابنا غرقا فيك؟ أم أنك طيب هادئ وديع حنون تحملنا أمواجك إلى بلاد بعيدة أحيانا ... ننسى همومنا ومشاكلنا إذا جلسنا إلى جوارك وتحدثنا إليك بأسرارنا وصارحناك بما يختلج في صدورنا ...
لماذا كلما أغوص فيك أحس أن مياهك تحتضنني وتحتويني؟ وتحملني برفق وتسترخي عضلاتي وأعصابي تماما فأجدني لا أبذل إي مجهود لحمل هذا الجسد المرهق كأنك تخلصني من الجاذبية الأرضية وتخلصني من التعب وشدة الأعصاب؟ وأشعر بالسلام الداخلي والهدوء وراحة الأعصاب! ولماذا هذا الجمال الخلاب والألوان البديعة التي حبى الله بها مخلوقاتك ولا يستطيع أن يراها إلا من يغوص فيك ليستمتع بها؟! ترى لمن خلق الله هذا الجمال ليراه؟ لماذا طعم الطعام المستخدم فيه الملح المستخرج منك مختلف تماما عن طعمه حينما نستخدم الملح المحضر كيمائيا (كلوريد الصوديوم)؟ لماذا تشفيني مياهك ورائحة هوائك العليل؟ وتهب علينا نسماتك الباردة بالصيف والدافئة في الشتاء؟ لماذا أفضل العطور لدي هي التي تذكرني برائحتك؟

لماذا مياهك باردة في الصباح ودافئة بالليل؟ كأنك تغرينا بالنزول فيك في إي وقت لتمنحنا بعضا من الدفئ عندما يكون الطقس في الهواء باردا وتمنحنا بعض البرودة عندما يكون الطقس حارا؟ !! لماذا أحس أن مياهك حية ليست ميتة كالمياه التي في الصنبور أو المعبأه في زجاجات؟ ولماذا تمتص الشحنات الكهربائية الزائدة في أجسادنا وأدمغتنا ... ولماذا تنظف مياهك أجسادنا أفضل من إي صابون أو مستحضرات طبية وتشفي كافة الأمراض الجلدية والفطريات؟ بل وتنظف عقولنا أيضا أحيانا مما قد يعلق بها من لوث البشر ... لماذا ولماذا؟ هل أنت كائن حي تعي وتفهم إحتياجاتنا فتلبيها لنا وتساعدنا فيها؟

تقول النظريات العلمية الحديثة أن الحياة على كوكب الأرض خرجت منك من طحلبة بسيطة قذفت بها أمواجك على الشاطئ فهطل عليها ماء المطر من السماء فنبتت منها عائلات الأشجار المختلفة والنباتات ثم الحيوانات بأنواعها ... لماذا أنت أكبر شيئ على سطح هذا الكوكب؟ ... كم أنت عميق وهادئ وصاخب وملئ بالكنوز والأسرار والغموض أيها البحر!

محمد مصطفى

عم علوان

سافرت أمي مع أبي وأنا في الثالثة من عمري ليعمل في الخارج وتركاني أمانه عند جدتي

كانت سيدة من أصول ريفية وكانت تستيقظ قبل الفجر لتشعل وابور الجاز لتعد الشاي أبو لبن والإفطار لخالي وخالاتي قبل توجههم لمدارسهم وجامعاتهم وكنت أستمتع جدا بهذا المشهد وأحرص على ان أستيقظ قبل الجميع لأتابع بشغف عملية إشعال الوابور من أولها بينما تصدح إذاعة صوت العرب بأغنية "أمجاد يا عرب أمجاد" في الراديو فقط لأن التلفزيون (الأبيض والأسود) كان عطلان

في هذا السن المبكر كنت أخشى من العفاريت فكنت لا أتحرك في المنزل في الظلام إلا بصحبة جدتي

كان أكثر ما يسعدني في ذلك الوقت أن تحضر لي إحدى خالاتي عند عودتها عسلية أو بونبوني أو فنضام ولم أكن أعي من أين يحضرون هذه الحلويات الجميلة فلم أكن أتعرض كثيرا للعالم الخارجي ولم أكن أعرف شيئا عن الشراء من البائع أوالتعامل بالنقود

رحلة الصباح اليومية كانت مع جدتي إلى السوق لتشتري الخضار وإحتياجات المنزل اليومية ولشدة خوفي من العالم الخارجي كنت دائما أمسك بطرف ثوبها ولم أكن أفهم ما تقوله لهم أو كيف تعطيهم النقود ليعطوها بدلا منها الخضار والإحتياجات التي كانت تضعها في حقيبة غالبا ما كانت ثقيلة لدرجة إني لم أكن أستطيع أن أساعدها وأحملها لها

إلى أن جاء اليوم الذي تشجعت فيه قليلا وبدأت أنظر وأنتبه لما حولي بينما تشتري هي إحتياجاتها فلمحت عم علوان

هو رجل عجوز جدا وبصره ضعيف جدا وكان يجلس على حجر متوسط الحجم ساندا ظهره على الحائط نائما دائما في مكان يتوسط السوق وأمامه عربة صغيرة يبيع فيها قطع الحلوى والعسلية والبنبوني وكل ما كان يمكن أن يجذب إنتباه طفل ويشبط فيه

أنبهرت بمحتويات عربة عم علوان وبدأت أطلب من جدتي أن تتركني كل يوم واقفا أمام العربة اتأمل محتوياتها لأقرر ما الذي سأطلبه من جدتي أن تشتريه لي عندما تنتهي من تسوقها وتعود لتأخذني للمنزل وكانت رحمها الله تختصر بعضا من طلباتي لتحضر لي شيئا واحدا أو شيئين على الأكثر

من التكرار تعلمت مكان عم علوان وكنت أحيانا أزوغ من جدتي وأخبرها إني سألعب على سطح المنزل مع أبناء الجيران ثم أتسلل نازلا للشارع بمفردي سالكا طريقي لمكاني المفضل في العالم الخارجي وكنت أحرص على أن لا تعلم جدتي بهذه الرحلة وإلا سوف تمنعني من الخروج نهائيا خشية أن أتوه ولا أستطيع العودة للمنزل أو أن يخطفني اللصوص ...

كان عم علوان هذا شخصا غريب الأطوار بالنسبة لي ... فهو يرتدي نفس الملابس دائما ولا يغيرها وهي عبارة عن بيجامة كستور مقلمة وفوقها بلوفر كما يرتدي طاقية مصنوعة من نفس قماش البيجامه ... كان عندما يشتري أحدهم شيئا منه يأخذ البضاعة ويقربها جدا من عينيه اليمنى ليعلم ماذا سيبيع ثم يفعل نفس الشيئ مع النقود ليعلم كم أخذ وكم أعطى ... فقد كانت عينه اليسرى بيضاء ويبدو أنها لا ترى ... كان رجلا قليل الكلام جدا ولم أعلم له إي فرد من أفراد أسرته فلم يكن له بيت وإنما كان في المساء يقرب عربته من الحائط ثم ينام أسفلها متغطيا بلحاف رمادي يبدو أن لونه لم يكن كذلك في البداية ولكنه تغير بفعل تراب الشارع

رأيت عنده في مرة لعبة إسمها "يويو" وهي عبارة عن خيط مطاط مربوط في أخره كرة ورقية مغطاه بورق السليوفان وفي داخلها بعض الرمل أو نشارة الخشب بحيث يلقيها الطفل من يده بينما يمسك بطرف الخيط فتذهب بعيدا عنه ثم تعود فترتد إليه ... طلبت من عم علوان أن أخذ واحده لي فقال لي إن ثمنها تعريفة (يعني نصف قرش) وطبعا لم يكن معي إية نقود فقلت له أن يعطيها لي وسوف أطلب من جدتي أن تعطيه التعريفة غدا ولكنه رفض...

عدت إلى البيت وطلبت من جدتي أن تعطيني تعريفة فقالت لي وماذا ستعمل بالنقود؟ قلت لها أريد أن أشتري يويو ولكنها لم تفهم كثيرا ما أقوله ورفضت بحجة أنهم سينصبوا عليا ويأخذون مني النقود ...

كان يوم الجمعه وعندما أتصل أبي وأمي في المساء ليطمئنوا عليا طلبت منهم أن يخبرا جدتي أن تعطيني التعريفة لأشتري اليويو وأخبروها ولكنها برغم ذلك لم تعطني التعريفة

في الصباح كنت أجذبها من ملابسها تجاه عربة عم علوان لأريها اليويو الذي أريده فصرخت في وجهي رافضة أن تشتري لي اليويو بحجة إني زنان

وقفت حزينا في مكاني أنظر إلى اليويو وأخطط أن أحصل عليه بأي طريقة ... وفعلا إنتهزت فرصة إنشغال عم علوان وأخذت اليويو بدون أن يشعر بي وخبأته في جيبي وكنت ألعب به في البيت فقط حينما أكون بمفردي لكي لا تراه جدتي لأنها ستنهرني وتأخذه لترجعه إلى عم علوان

بعد ذلك بحوالي أربع سنوات تذكرت هذه الواقعه وعلمت أن مافعلته يسمى سرقة وأن هذا حرام وفي ذلك الوقت كان أبي يعطيني مصروفا يوميا قرشا كاملا لذلك كان المال قد توفر معي وقررت أن أصلح خطئي عن طريق دفع التعريفة إلى عم علوان

أنتهزت فرصة الأجازة الصيفية وكنا في زيارة لجدتي فنزلت من عندها وسرت لنفس المكان الذي تعود عم علوان أن يجلس فيه بعربته ولكني لم أجده ... لما سألت عليه بعض البائعين الأخريين قالو لي "تعيش إنته" !!!! مات عم علوان ...

محمد مصطفى

الجمعة، 23 مارس 2012

الخير والشر


الشر عند البشر

البعض يتعجبون ويتسائلون لماذا كل هذا الكم من الشر بين البشر؟ لماذا يقتل بعض الناس بعضهم بعضا ... يتصارعون من أجل المادة والسلطة والنفوذ والسيادة والسيطرة بل من أجل الطعام والشراب أحيانا والمتعة واللذة! لماذا قتل قابيل هابيل؟ ولماذا غزا التتار والمغول العالم وقتلوا كل هذا الكم من البشر وسلبوا ونهبوا ثم ذهب كل هذا هباء وإين ذهبت دماء وأشلاء قتلاهم ثم إنحسروا فجأة وكأن شيئ لم يكن! أين ذهب ماجمعوه ومافرضوا عليه سلطانهم بل أين ذهبوا هم أصلا الأن؟ لماذا حتى الأن هناك صراعات وحروب ولا يمر يوم إلا ونسمع عن قتلى جدد وسرقات وجرائم وإغتصاب؟ هل هناك ناس خيرون وأخرون أشرار بطبعهم؟ بل أن الشخص نفسه قد يمر بمراحل وفترات في حياته يكون فيها خير أحيانا وشريرا أحيانا أخرى ... والأعجب من ذلك أن الشخص نفسه في نفس الوقت قد يكون خير مع بعض الناس وشريرا مع البعض الأخر!!!


إن الجندي المحارب يكون من وجهة نظر أعدائه لص قاتل مغتصب مجرم بينما من وجهة نظر قومه يكون بطلا محاربا شجاعا مغوارا!


لماذا هذا التداخل بين الخير والشر ففي الموقف نفسه يكون الشر يحوي الخير والخير يحوي الشر.....


الشر ليس عند البشر فقط!

هل رأيت كيف يقفز الأسد على الغزالة فجأة فيفترسها بلا هوادة أو رحمة؟ أليس ربما لهذه الغزالة أطفالا صغارا ترضعهم وهم ينتظرون عودتها بعد أن تكون قد تغذت جيدا فيجدوا في درعها حليبا يتقوتون منه؟ لماذا أنهى الأسد حياتها فجأة هكذا ولماذا؟ لمجرد أن يلتهم وجبة سرعان ماسيترك أشلائها بعد أن يشبع ثم يعود مرة أخرى فيبحث عن صيد جديد ويشرد أطفالا ربما لبقرة أخرى أو جاموسة برية أو حسبما ما سيوقعه حظه العسر حيوان تقوده قدماه إلى مصيره المحتوم.... الأسماك في المحيط تعيش على الأسماك الأصغر حجما ... الطيور الجارحة في السماء تنقض على فرائسها كالسهم المسموم فترديها مقتولة في لحظة ليلا كانت أو في وضح النهار ...


أعتدت أن أربي بعض أسماك الزينة في الأحواض الزجاجية وذلك ليس فقط للتمتع بشكلها الجميل وألوانها المبهرة وإنما أيضا لدراسة سلوكها عن قرب بالإضافة لتعلم القوانين الطبيعية كالكيمياء والفيزياء والأحياء... والعجيب إني كنت ألاحظ تصرفات كنت أرى ساعتها أنها غريبة جدا! لقد فوجئت أن الشر موجود في سلوكياتها كما في البشر أيضا و لكن بصورة أشد قسوة وإن إختلفت الدوافع والأهداف فالسرقة موجودة والصراعات من أجل بسط النفوذ والسيطرة على أشدها بل والأعجب إني فوجئت بالذكر في أحد أنواع السمك المعروف بأسم "المقاتل" الذي لا يتحمل وجود ذكر أخر من نفس نوعه في نفس الحوض بل يثور ويقاتل بشراسة ولا يهدأ له بال حتى يمزق جميع الذكور الأخرين أربا ويكون البقاء للذكر الأقوى ويتمتع بمصاحبة باقي إناث القطيع! وجدت الغيرة الشديدة في بعض الأنواع الأخرى مثل "المندرين" فحتى الأنثى لا تتحمل أيضا أن توجد إنثى أخرى في الحوض تشاغل ذكرها فتختلس الحركات وتخطط وتدبر حتى تأتيها الفرصة السانحة وتذبح الأنثى الأخرى بقسوة بالغة لكي تظل هي الوحيدة أمام ذكرها دائما... وجدت الوحشية الشديدة كما وجدت معاني الحب الصادق والإخلاص ففي بعض الأنواع كالديسكس والأنجل تجد الذكر أو الأنثى يظل مخلصا دوما لوليفته فإذا حدث وماتت فأنه يحزن عليها وربما قد يموت لفراقها مهما وضعت أمامه من إناث أخريات ربما أكثر جمالا من وليفته التى إعتاد عليها!


يخبرنا علماء الطبيعة المتخصصون في دراسة النمل عن أنواع من النمل تؤسس ممالك وإمارات ويحدث بينها حروب ضارية وتخرج الجيوش المحاربة للمملكة التي تريد أن توسع رقعتها وتهاجم المملكة المجاورة وتنهب وتسلب وتقضي تماما على جميع الأفراد فيها ولا تهدأ حتى تقتل الملكة في عشها بينما يقاتل الجنود الأخرين في دفاع وإستبسال منقطع النظير حتى أخر رمق دفاعا عن ملكتهم التي قدد تتمكن من الطيران بعيدا وتنجو بنفسها تاركة المملكة وجنودها وعمالها وشغاليها وصوامعها لتبدأ في تأسيس مملكة جديدة في مكان أخر... في أعماق المحيطات يتفق مجموعة من أسماك القرش على عمل تنظيم عصابي وإتحاد فيما بينهم لمهاجمة أسراب أسماك التونة في رحلاتها فيختبئ قطيع القروش في مكان محدد في موعد محدد كأنهم يعلمون سلفا بأن السرب سيمر من هذا المكان بالذات في هذا الوقت بالذات ثم تبدأ لحظة الإنقضاض فيفاجئون السرب ويضيقون الخناق عليه حتى تضطرب حركتهم ثم يفتح كل قرش فكيه فيدخل فيه حشود السمك المذعور المضطرب ... إن هذه الوجبة الشهية لم تكن ستتوفر لسمكة قرش واحدة بمفردها لولا وجودها وسط قطيع كبير يتعاونون فيما بينهم على الإنقضاض على سرب السمك الصغير المسكين.


مداخله

من أسماء الله الحسنى الرحمن الرحيم الحكم العدل الباسط الرزاق العليم ومن أسمائه أيضا الجبار المتكبر المنتقم القهار المهيمن القابض المذل ... المجموعة الأولى من الأسماء واضحة والمجموعة الثانية يتسائل عنها بعض الناس لماذا يصف الله نفسه بهذه الأوصاف التي تبدو متضادة مع الأوصاف الأولى .... تأتي الإجابة من الفقهاء فيقولون بكل بساطه "لكي تستقيم الحياة" ....


هل الشر ضمن منهج الكون؟

خلق الله الملائكة وكذلك خلق الشياطين الملائكة يسبحون بحمده أما الشياطين فتوعدهم بحسابه في الأخرة وهناك سؤال ساذج يقول: "إذا كان الله يعلم مسبقا بشرور الشياطين فلماذا خلقهم أصلا ولماذا بلى بني أدم بهم كما إبتلى أدم عليه السلام شخصيا؟ لماذا لا يقضي عليهم ويرتاح البشر من شرورهم ووسوساتهم!" والسؤال الأكثر سذاجه يقول: "لماذا يستخدم الله الملائكة في إهلاك البشر العاصين؟ تماما كما أرسل الملائكة المكلفين بإهلاك قرية قوم لوط عليه السلام لما شاعت فيهم الفاحشة فرفعوا القرية في السماء بمن عليها ثم قلبوها لتهوي على الأرض ويصير عاليها أسفلها عذابا لهم... (لاحظ هنا الجزاء من جنس العمل فكما قلبوا خلق الله قلبت بهم قريتهم نكالا لهم)


في قصة العبد الصالح التي وردت في سورة الكهف حينما أراد موسى عليه السلام إتباعه ليتعلم منه ولم يستطيع أن يصبر على أشياء تبدو غير منطقية بالنسبة له فالسفينة التي يخرقها الرجل والغلام الذي قتله والجدار الذي أقامه كلها أعمال تبدو لموسى عليه السلام هي الشر بعينه بينما حينما فسرها العبد الصالح لموسى عليه السلام فيما بعد أتضح جليا إنها كانت هي الخير بعينه..... لا يسرد الله عز وجل قصة في القرأن عبثا أو لمجرد ملئ فراغ حاشا لله وإنما لكل قصة أهداف ومعاني وأعتقد أن من ضمن معاني وأهداف هذه القصة هو أن يشرح لنا المولى عز وجل موضوع الخير والشر برمته ويجيب على كل أسئلتنا السابقة ويزيل الغموض الذي قد يعترينا حينما نتعجب من وجود الشر في حياتنا ...


لماذا الإفتراس عند الحيوانات؟

يخبرنا علماء الأحياء أن هذا الإفتراس ضروري للتوازن البيئي ... لو تتبعنا السلسلة الغذائية لأحد المخلوقات كالفئران مثلا التي قد تتغذى على الحشرات الأصغر حجما سنجد أنها تنوع مصادر تغذيتها على حسب وفرة ما تجده حولها ... فإذا ذاد عدد الصراصير في مكان ما نتيجة لظروف معينة فأن هذا سيمثل غذاءا وفيرا للفئران التي سيزداد عددها بعد أن تحسنت مصادر تغذيتها وسيقل عدد الصراصير ... وهذا العدد الكبير من الفئران سيتسبب في زيادة عدد القطط التي ستجد لها أيضا مصدر وفيرا في الغذاء ستقل الفئران مرة أخرى وستزيد القطط وهكذا ... إن هذا القانون سيجعل الأعداد لاتزيد ولا يطغى نوع على نوع في توازن بيئي معتدل بحيث أن إي إختلال بيئي ناتج عن طفرة في إذدياد الأعداد ستتم معالجته بصورة تلقائية ثم نصل إلى أعلى الحيوانات في السلسلة مثل الأسد الذي يفترس كل ما أسفله (هل أقتنعت بأهمية وجود الأسد في الحيوانات؟) فتجد أن الأسود نفسها هي من تبيد بعضها وذلك لأنها بحكم عاداتها وسلوكها لا تسمح سوى بوجود ذكر واحد في وسط القطيع الذي يجب أن يكون أقواهم وقادر على تمزيق البقية أربا حتى يفوز وحده بالإناث ثم تتحلل أجسادهم وتتعفن ويتغذى عليهم دود الأرض الذي بدوره يغلق السلسلة فتأكله الطيور والحيوانات الضعيفة مرة أخرى وهكذا تدور الحلقة مرة أخرى ...


لماذا الصراع والبقاء للأقوى؟

الأسود تجري وراء القطيع ولا تلحق وتأكل إلا ضعاف البقر أو الغزلان المعتلة الهزيلة التي لم تقوى على الجري مع باقي القطيع عند هجوم الأسد وبالتالي فأن من سيبقى هو أقوى القطيع وهو الذي سيتزاوج بعد ذلك وسينجب أولادا يرثون منه الصحة واليقظة والإنتباه بحيث أن كل جيل سيكون أفضل مما قبله بينما سيكون الإفتراس هو مصير السلالة الضعيفة ... إي أن هذا الإفتراس الذي نحسبه شرا هو في الواقع خيرا لتحسن نسل النوع ... في النحل يطير مئات الذكور مسافات شاسعة خلف الملكة عند التزاوج ويبدأون في التساقط صرعى الواحد تلو الأخر خلال هذه الرحلة المميتة وأخر من سيظل حيا مكافحا منهم هو الذي سيفوز بها ويلقحها وهذا يعني أن الجيل الذي ستنجبه سيرثون القوة من أبيهم الذي كان أقوى ذكرا في السرب وبالتالي فأنها تكون قد ضمنت أنها حصلت على أفضل نسل .... هل تعلم أن في البشر تحتوي الخلايا الحية على ثلاثة وعشرون زوج من الكروموسومات التي تحمل الصفات الوراثية من الأب والأم وأن الملايين من الحيوانات المنوية التي تحتوي على كافة التباديل والتوافيق الممكنة من الموروثات الجينية المميزة للأب من صحة وقوة وذكاء وحتى لون العينين والبشرة والشعر وكل شيء ولا يستطيع الوصول للبويضه ويخصبها في رحم الأم إلا أقوى هذه الحجيوانات المنوية ولأنه أقواهم فهو يحمل معه أفضل تبديلة وتوفيقة ممكنة من بين هذه الموروثات الجينية المختلفه وهذا مايسمى بقانون الإنتخاب ... من الذي هدى الحيوانات المنوية (الغير عاقلة) والبويضات إلى هذه الطريقة الذكية التي بلا شك تؤدي إلى تحسين النسل بصورة مستمرة ومستديمة وتنتج بشر أصحاء أقوياء قادرين على البقاء في الحياة بأفضل صورة؟


قد يرى البعض أن في مقتل ملايين الملايين من الحيوانات المنوية التي لم تستطع الوصول للبويضه شرا عارما !!! لكنه بلا شك قد غفل عن الخير العميم الذي حدث نتيجة عدم خروج إلا أفضل ما يمكن من الأجنة.


الشحنات الكهربية

إذا دعكت المشط بقطعه من الصوف فقد بذلت مجهودا وهذه الطاقة تحولت على شكل طاقة كهربائية تم إختزانها في المشط و قطعة الصوف وهذا ما يسمى بالكهرباء الإستاتيكية. والشحنات نوعان موجبة وسالبة فإذا ما وصلت جسما مشحون بشحنة موجبة بسلك ثم قربت طرفه الثاني من طرف سلك أخر متصل بجسم مشحون بشحنة سالبة فأن التيار الكهربائي يبدأ بالإنسياب تدريجيا في الأسلاك وتتوقف شدة إنسيابه على المقاومة التي تبديها الأسلاك له فإذا إخترت أسلاكا معدنية (نحاسية مثلا) تكاد تكون مقاومتها شبه منعدمة فإن التيار ينساب بشدة عالية ويفرغ كل الشحنة في لحظة مسببا شرارة وفرقعة. ونلاحظ أنه بعد إفراغ الشحنة فأنه لاتيار ينساب ويظل كل شيئ هامدا ساكنا. ونلاحظ هنا أنه لايهم إتجاه حركة التيار ... المهم هو الحركة نفسها ... فعلماء الفزياء نفسهم متحيرين فيقولون تارة أن الشحنة الموجبة هي التي إنتقلت إلى الشحنة السالبة وتارة يقولون أن الألكترونات هي التي إنتقلت في عكس الإتجاه! تماما حينما يتلامس جسم بارد بجسم أخر ساخن لاتدري هل إنتقلت البرودة من أحدهما إلى الأخر أم أن الذي إنتقل هو الحراره في عكس الإتجاه ...


التوضيح والخلاصة

الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون وقد أمد كل مافيه من مخلوقات من بشر وملائكة وحجر وجماد وكل شيئ بطاقته لأنه بدون هذه الطاقة المستمرة يسكن كل شيئ وينهار كل شيئ وتتوقف الحياة ويحل العدم لأن كل شيئ سيتحلل إلى مكوناته الأولية التي سرعان ما ستنجذب مرة أخرى لبعضها في كتلة لانهائية لايتعدى حجمها القبضة وهي التي بدأ الرحمن بها الخلق كله ...


هذه الطاقة هي التي تحفظ كيان الذرات فتدور الإلكترونات بها حول النواة التي تحتوي على البروتونات والنيترونات بسرعة الضوء ولو توقفت لسبب ما لأرتمت الألكترونات في أحضان البروتونات وتعادلت شحنتيهما ثم تسكن للأبد ... هذه الطاقة التي كونت المواد الأولية الغازات والمعادن والصخور ثم الماء والطين الذي خلق منه البشر ... هذه الطاقة التي تحرك كل شيئ حي وكل جماد يسكن ويتحرك بها ... الروح التي تجعل الجماد حي ويتحرك ويختار ما يريد يأكل ويشرب ويتناسل ويسعى في هذه الحياة قبل أن يفنى ويحل العدم ...


طاقة تعني شحنات ساكنة ماتلبث أن تنتقل لأن الحركة تعني الحياة ... الخير (الذي هو من منظورنا) لو ظل بمفرده هو القانون الأوحد لهذا الكون لحدث السكون ولكن يجب أن يوجد معه ضده حتى تحدث الحركة وتستوي الحياة. يجب أن يوجد الشر بل ويجب أن تكون الغلبة لأحدهما مرة بعد مرة هذا هو مايسبب الحركة ... الساذجون فقط هم من يظنون أن الخير سيغلب الشر للأبد أو أن الشر سيظل موجودا للأبد ... بالتأكيد سوف يكون النصر لأحدهما في النهاية وساعتها لن يفرق شيئا إذا كان النصر للخير أم للشر لأنها ببساطة هي النهاية.


هذا المعنى المزدوج للخير موجود في كل شيئ في الكون ... شحنة سالبة وأخرى موجبة ... ذكر وأنثى ... ماء وهواء ... نار وتراب .... لماذا تقبلون الإذدواج في كل شيئ حولكم وتعرفون أنه سبب إستمرار الحياة وترفضون أن يوجد الشر حتى يقابل الخير ويكون هذا الإمتزاج أيضا سببه هو إستمرار الحياة؟ هل يمكن أن توجد حياة بذكر فقط أو أنثى فقط؟ ماء فقط أو تراب فقط؟ لماذا تظنون أن الشر ليس مهما لإستمرار حياتكم؟


الشر يجب وجوده حتى يتحرك الخير فلو كان الخير وحيدا في هذا العالم لتكاسلت كل المخلوقات ... فما الداعي لقطيع من الأغنام أن يتحرك ويتقل من مكان إلى مكان إذا أمن أن لن يأكله الذئب بل ربما سيأمن عدم وجود الذئب أصلا ... لماذا تأكل ولماذا ستتزاوج فالخير موجود حولها في كل مكان فسيظل المرعى دائما أخضر والماء متوافر وربما سوف لن تموت .... كم ستصبح هي مملة تلك الحياة التي لا توجد فيها مخاوف أو دوافع للقلق ... سوف تكون الحياة ساعتها أشبه بالموت ... إذا لم يكن هناك جنة ونار فسيكون كل المخلوقات هي نفس الشيئ بل ربما نفس الشخص ...


يجب أن لا نحكم أن ما يحدث أمامنا هو خير أو شر فنحن لا نعي الحكمة في كل شيء نحن البشر فقط نحب ونكره بينما في سورة الكهف وضحت لنا أن مانظنه شرا قد يكون خيرا في الواقع وما نعتقد في كونه خير قد يكون أشر الشرور وبالتالي فأننا قد نحب (بقصور فهمنا) مافيه ضرر لنا وقد نكره (بمحدودية إدراكنا) مافيه خيرا لنا ... بينما الله يقدم لنا مافي صالحنا دائما ... وأن مانراه من مواقف ليس المهم تفسيرها خير أم شر إنما يجب أن نعلم بأنها تكون لصالحنا دائما وهي تنفيذ لإرادة الله القادر ... فهو يكافئ العبد الطائع وييسر له طرق الخير ... ويعاقب العبد الطالح ... قد يعرض بعض عباده لما يكرهوا أحيانا حتى يستفيقوا ... وقد يملي لبعض عباده حتى يستدرجهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر....


أرادة الله دائما الخير ... وأراد الله أن يمنح بعضا من خلقه بعضا من إرادته فحملهم الأمانه ليختبر أدائهم فبعضهم يحسن فيعمل الخيرات وبعضهم يسيئ فتأتي منهم الشرور ....


ولذلك نجمل القول بأن الخير يأتي من الله دائما لكن بعض المخلوقات يأتي من نفوسهم الشر لذلك من العدالة أن يكون الله غفارا رحيما مع العباد المصلحين وأن يكون جبارا متكبرا مع المفسدين.


محمد مصطفى