الأحد، 28 أكتوبر 2012

عم علوان

سافرت أمي مع أبي وأنا في الثالثة من عمري ليعمل في الخارج وتركاني أمانه عند جدتي

كانت سيدة من أصول ريفية وكانت تستيقظ قبل الفجر لتشعل وابور الجاز لتعد الشاي أبو لبن والإفطار لخالي وخالاتي قبل توجههم لمدارسهم وجامعاتهم وكنت أستمتع جدا بهذا المشهد وأحرص على ان أستيقظ قبل الجميع لأتابع بشغف عملية إشعال الوابور من أولها بينما تصدح إذاعة صوت العرب بأغنية "أمجاد يا عرب أمجاد" في الراديو فقط لأن التلفزيون (الأبيض والأسود) كان عطلان

في هذا السن المبكر كنت أخشى من العفاريت فكنت لا أتحرك في المنزل في الظلام إلا بصحبة جدتي

كان أكثر ما يسعدني في ذلك الوقت أن تحضر لي إحدى خالاتي عند عودتها عسلية أو بونبوني أو فنضام ولم أكن أعي من أين يحضرون هذه الحلويات الجميلة فلم أكن أتعرض كثيرا للعالم الخارجي ولم أكن أعرف شيئا عن الشراء من البائع أوالتعامل بالنقود

رحلة الصباح اليومية كانت مع جدتي إلى السوق لتشتري الخضار وإحتياجات المنزل اليومية ولشدة خوفي من العالم الخارجي كنت دائما أمسك بطرف ثوبها ولم أكن أفهم ما تقوله لهم أو كيف تعطيهم النقود ليعطوها بدلا منها الخضار والإحتياجات التي كانت تضعها في حقيبة غالبا ما كانت ثقيلة لدرجة إني لم أكن أستطيع أن أساعدها وأحملها لها

إلى أن جاء اليوم الذي تشجعت فيه قليلا وبدأت أنظر وأنتبه لما حولي بينما تشتري هي إحتياجاتها فلمحت عم علوان

هو رجل عجوز جدا وبصره ضعيف جدا وكان يجلس على حجر متوسط الحجم ساندا ظهره على الحائط نائما دائما في مكان يتوسط السوق وأمامه عربة صغيرة يبيع فيها قطع الحلوى والعسلية والبنبوني وكل ما كان يمكن أن يجذب إنتباه طفل ويشبط فيه

أنبهرت بمحتويات عربة عم علوان وبدأت أطلب من جدتي أن تتركني كل يوم واقفا أمام العربة اتأمل محتوياتها لأقرر ما الذي سأطلبه من جدتي أن تشتريه لي عندما تنتهي من تسوقها وتعود لتأخذني للمنزل وكانت رحمها الله تختصر بعضا من طلباتي لتحضر لي شيئا واحدا أو شيئين على الأكثر

من التكرار تعلمت مكان عم علوان وكنت أحيانا أزوغ من جدتي وأخبرها إني سألعب على سطح المنزل مع أبناء الجيران ثم أتسلل نازلا للشارع بمفردي سالكا طريقي لمكاني المفضل في العالم الخارجي وكنت أحرص على أن لا تعلم جدتي بهذه الرحلة وإلا سوف تمنعني من الخروج نهائيا خشية أن أتوه ولا أستطيع العودة للمنزل أو أن يخطفني اللصوص ...

كان عم علوان هذا شخصا غريب الأطوار بالنسبة لي ... فهو يرتدي نفس الملابس دائما ولا يغيرها وهي عبارة عن بيجامة كستور مقلمة وفوقها بلوفر كما يرتدي طاقية مصنوعة من نفس قماش البيجامه ... كان عندما يشتري أحدهم شيئا منه يأخذ البضاعة ويقربها جدا من عينيه اليمنى ليعلم ماذا سيبيع ثم يفعل نفس الشيئ مع النقود ليعلم كم أخذ وكم أعطى ... فقد كانت عينه اليسرى بيضاء ويبدو أنها لا ترى ... كان رجلا قليل الكلام جدا ولم أعلم له إي فرد من أفراد أسرته فلم يكن له بيت وإنما كان في المساء يقرب عربته من الحائط ثم ينام أسفلها متغطيا بلحاف رمادي يبدو أن لونه لم يكن كذلك في البداية ولكنه تغير بفعل تراب الشارع

رأيت عنده في مرة لعبة إسمها "يويو" وهي عبارة عن خيط مطاط مربوط في أخره كرة ورقية مغطاه بورق السليوفان وفي داخلها بعض الرمل أو نشارة الخشب بحيث يلقيها الطفل من يده بينما يمسك بطرف الخيط فتذهب بعيدا عنه ثم تعود فترتد إليه ... طلبت من عم علوان أن أخذ واحده لي فقال لي إن ثمنها تعريفة (يعني نصف قرش) وطبعا لم يكن معي إية نقود فقلت له أن يعطيها لي وسوف أطلب من جدتي أن تعطيه التعريفة غدا ولكنه رفض...

عدت إلى البيت وطلبت من جدتي أن تعطيني تعريفة فقالت لي وماذا ستعمل بالنقود؟ قلت لها أريد أن أشتري يويو ولكنها لم تفهم كثيرا ما أقوله ورفضت بحجة أنهم سينصبوا عليا ويأخذون مني النقود ...

كان يوم الجمعه وعندما أتصل أبي وأمي في المساء ليطمئنوا عليا طلبت منهم أن يخبرا جدتي أن تعطيني التعريفة لأشتري اليويو وأخبروها ولكنها برغم ذلك لم تعطني التعريفة

في الصباح كنت أجذبها من ملابسها تجاه عربة عم علوان لأريها اليويو الذي أريده فصرخت في وجهي رافضة أن تشتري لي اليويو بحجة إني زنان

وقفت حزينا في مكاني أنظر إلى اليويو وأخطط أن أحصل عليه بأي طريقة ... وفعلا إنتهزت فرصة إنشغال عم علوان وأخذت اليويو بدون أن يشعر بي وخبأته في جيبي وكنت ألعب به في البيت فقط حينما أكون بمفردي لكي لا تراه جدتي لأنها ستنهرني وتأخذه لترجعه إلى عم علوان

بعد ذلك بحوالي أربع سنوات تذكرت هذه الواقعه وعلمت أن مافعلته يسمى سرقة وأن هذا حرام وفي ذلك الوقت كان أبي يعطيني مصروفا يوميا قرشا كاملا لذلك كان المال قد توفر معي وقررت أن أصلح خطئي عن طريق دفع التعريفة إلى عم علوان

أنتهزت فرصة الأجازة الصيفية وكنا في زيارة لجدتي فنزلت من عندها وسرت لنفس المكان الذي تعود عم علوان أن يجلس فيه بعربته ولكني لم أجده ... لما سألت عليه بعض البائعين الأخريين قالو لي "تعيش إنته" !!!! مات عم علوان ...

محمد مصطفى

ليست هناك تعليقات: