الأحد، 28 أكتوبر 2012

البحر



والدي كان يجيد السباحة وكم حكى لي إنه كان متفوقا على أقرانه دائما ويسبقهم جميعهم عندما كان شابا ... إعتادوا أن يذهبوا كل صيف إلى شاطئ سيدي بشر بالإسكندرية (كان هذا قديما قبل أن تتحول المنطقة إلى شاطئ شعبي) ويعقدوا هناك المسابقات, أيهم يصل إلى الجزيرة المقابلة أسرع (وتبعد حوالي خمسمائة متر تقريبا عن الشاطئ) وكان هو الفائز دائما! (نقلا عن روايته)

إعتدنا في كل صيف أن نذهب والعائلة لتمضية جزء من أشهر الصيف الحارة في أحد المصايف وخصوصا المعمورة التي كنت أحبها كثيرا ... عز على والدي أن يرى إبنه الأكبر لايجيد السباحة ويخاف من البحر لدرجة إني كنت أرتدي الطوق وأظل جالسا على الشاطئ الرملي ... أبني بيوتا وقصورا على الرمال ولا أرافقهم أبدا في دخولهم إلى عمق الماء وأحاول إختلاق الأعذار كلما دعاني أحدهم لمرافقتهم.

كنت في السادسة من عمري حينما إتفق والدي مع زوج عمتي (طبيب بشري) أن يستأجرا دلسوار (لوح خشبي يشبه القارب في تكوينه) ثم دعوني أن أشاركهم الرحلة الجميلة على متن الدلسوار وأقنعاني أنه لاداعي لإرتداء الطوق لأني سوف أكون جالسا طول الوقت على الدلسوار بينما سيكونا هما في الماء يدفعانه ويوجهانه ... وببرائة وتلقائية خلعت الطوق وجلست ثم بدءا يسحبان القارب نحو عمق البحر ... مرت دقائق سريعة أستمتعت فيها برؤية الشاطئ من بعيد وإبتعدنا عن زحمة وضوضاء المصطافين الذين كانوا قرب الشاطئ ثم فجأة وبدون إي مقدمات وجدت القارب ينقلب في الماء فوجدتني أنزلق من عليه ... حاولت التشبث به لكني لم أستطيع ....
لم أستوعب ماحدث ولكن وجدتني أغوص في الماء .... حاولت التنفس فلم أستطع وإذا بالماء يدخل من أنفي وفمي ويقتحم حلقي الى داخل صدري وبطني ... حاولت فتح عيني تحت الماء لأرى السطح ولكن لم أره! أحسست إني أغوص نحو القاع ... لم أرى سوى فقاقيع الهواء الصغيرة تتصاعد حولي بينما أغوص لأسفل وأدركت أني مقبل على الموت غرقا ... مرت لحظات قليلة ولكنها كانت طويلة وقاسية جدا بالنسبة لي ... أحاول أن أحرك ذراعي ورجلاي لكن لا شيئ يجدي فقد فقدت القدرة على التميز بين الأعلى والأسفل ... أريد أن أتنفس فأنا محتاج للهواء ولكن لاشيئ يدخل غير الماء ...أبحث عن أحدهما تحت الماء ولكن لا أراهما ... لم أرد أن أموت وحاولت أن أتعلق بالحياة وأدركت ساعتها إحساس الغريق الذي يريد أن يتعلق بأي شيئ ولو حتى بقشة ... دارت في رأسي الكثير من الأفكار في هذا الوقت الرهيب ... هل سأغرق؟ ماذا يعني الموت؟ وهل سيعودان للمنزل بدوني (إن عادا هما أصلا) وماذا سيقولان لأمي؟ وماذا ستفعل بدوني؟ وهل سيرث أخي الأصغر ألعابي وطوقي؟؟؟ ياله من محظوظ ...

وجدت يد تمتد من داخل الماء وجذبتني لأعلى من قدمي اليسرى سريعا ثم رفعاني فوق القارب وأمسك والدي بقدمي لأعلى بيينما جسدي معلق في الهواء ولكني لا أزال لا أستطيع التنفس ... سأختنق ... فظل زوج عمتي يربت بشدة على ظهري وبطني حتى أفرغت كل الماء الذي إبتلعته وأخرجت مافي رئتي ... ثم رقدت على متن الدلسوار مذعورا أعاني من الألام لا أفهم ولا أدري مالذي حدث ... وكانت تجربة عنيفة جدا وصدمة قاسية ...

حاولت الإختباء منهما بعد ذلك لكي لا أذهب البحر معهما فيلقياني في الماء مرة أخرى لكن دون جدوى ... ثم أقنعني والدي بأن أبدأ في تعلم السباحه لأنه الحل الوحيد لكي أنقذ نفسي (ومن سيكون معي) في المستقبل ولكي لا نتعرض للتجربة المرعبة مرة أخرى. لقد كنت محظوظا في المرة السابقة لوجود من يجيد السباحه معي وتم انقاذي ولكن كيف سيكون الحال إذا ماكنت بمفردي ولا أجيد السباحه فمن سينقذني حينئذ؟ فإقتنعت بكلامه ...

علمني خوفي من التعرض للغرق مرة أخرى السباحه.

ثم بدأ والدي تدريجيا في تعليمي التمارين البسيطه كالوقوف في الماء حينما لايكون لك طول وذلك عن طريق تبديل دفع القدمين للماء لأسفل فيظل الجسم مرتفعا لإعلى ... ثم تمارين النوم ممددا على سطح الماء عن طريق أخذ نفس عميق لملئ الصدر بالهواء فيصبح الجسم كالبالونه فيستطيع الطفو فوق سطح الماء ... ثم بعد ذلك تمارين التحريك فوق سطح الماء عن طريق تحريك اليدين والرجلين ومايسمى بالسباحه البريست والباك والفراشة .... أستغرق التعليم يومين فقط (يبدو أن الخوف من الغرق كان دافعا قويا لسرعة التعلم) ثم بدأت أرافقهم في رحلاتهم العميقة وإكتسبت الثقة والمهارة والسرعة تدريجيا ... بل وبدأت أحب نزول البحر في العمق وألاحظ المصطافين من حولي لأنقذ من يتعرض منهم للغرق ...

علمت نفسي بنفسي الغوص بدون معدات في المياه الضحلة عن طريق كتم النفس وتمرنت عليه كثيرا ووجدت إنه شيقا ومثيرا جدا أن تكتشف أعماق البحر وترى الجمال والروعة التي لا نرى مثيلا لها فوق سطح الماء وخاصة عند الغطس في أماكن تجمع الشعاب المرجانية وهويت الغطس بعد ذلك عندما كبرت وتعلمت الغوص بالمعدات وإسطوانات الأوكسجين والنيتروجين في المياه العميقة ... وبدأت الصلة بيني وبين البحر تزداد تدريجيا ... وبدأت أحتفظ ببعض الأسماك والكائنات البحرية في أحواض زجاجية أربيها وأراقبها جيدا لأدرس عاداتها وبيئيتها وأستمتع بحسن منظرها وأتعلم كيمياء وفيزياء وأحياء ماء البحر ....
لا أصدق العرافين مطلقا ولكني أتذكر من أيام الطفولة أيضا أن أحد العرافات ممن يدعون علم الغيب عن طريق وشوشة وقراءة الودع أقنعت إحدى قريباتي على الشاطئ بأن ترى حظها (وكانت تخشى أن يطلقها زوجها بسبب عدم الإنجاب!) فأخبرتها العرافة إنها ليس لديها مشكلة تماما وأن العيب في زوجها ... وهذا ما أتضح بالفعل بعد ذلك من نتائج الفحوصات والتحليلات الطبية! ثم حدث لي بعد ذلك في العشرينات من عمري حينما كنت أعاني من بعض المشكلات الطبية أخبرتني أيضا بعض هؤلاء العرافات بأن الدواء يكمن في مياه البحر وبرغم إعراضي عنها وهروبي منها إلا أنها صممت أن تخبرني بذلك دون أن أعطيها إي أجر ... وإختفت فجأه كما ظهرت فجأه ...

ما هذا الغموض والسحر الذي فيك؟ وهل أنت حقا جبارا عنيفا مخيفا تأخذ منا أحبابنا غرقا فيك؟ أم أنك طيب هادئ وديع حنون تحملنا أمواجك إلى بلاد بعيدة أحيانا ... ننسى همومنا ومشاكلنا إذا جلسنا إلى جوارك وتحدثنا إليك بأسرارنا وصارحناك بما يختلج في صدورنا ...
لماذا كلما أغوص فيك أحس أن مياهك تحتضنني وتحتويني؟ وتحملني برفق وتسترخي عضلاتي وأعصابي تماما فأجدني لا أبذل إي مجهود لحمل هذا الجسد المرهق كأنك تخلصني من الجاذبية الأرضية وتخلصني من التعب وشدة الأعصاب؟ وأشعر بالسلام الداخلي والهدوء وراحة الأعصاب! ولماذا هذا الجمال الخلاب والألوان البديعة التي حبى الله بها مخلوقاتك ولا يستطيع أن يراها إلا من يغوص فيك ليستمتع بها؟! ترى لمن خلق الله هذا الجمال ليراه؟ لماذا طعم الطعام المستخدم فيه الملح المستخرج منك مختلف تماما عن طعمه حينما نستخدم الملح المحضر كيمائيا (كلوريد الصوديوم)؟ لماذا تشفيني مياهك ورائحة هوائك العليل؟ وتهب علينا نسماتك الباردة بالصيف والدافئة في الشتاء؟ لماذا أفضل العطور لدي هي التي تذكرني برائحتك؟

لماذا مياهك باردة في الصباح ودافئة بالليل؟ كأنك تغرينا بالنزول فيك في إي وقت لتمنحنا بعضا من الدفئ عندما يكون الطقس في الهواء باردا وتمنحنا بعض البرودة عندما يكون الطقس حارا؟ !! لماذا أحس أن مياهك حية ليست ميتة كالمياه التي في الصنبور أو المعبأه في زجاجات؟ ولماذا تمتص الشحنات الكهربائية الزائدة في أجسادنا وأدمغتنا ... ولماذا تنظف مياهك أجسادنا أفضل من إي صابون أو مستحضرات طبية وتشفي كافة الأمراض الجلدية والفطريات؟ بل وتنظف عقولنا أيضا أحيانا مما قد يعلق بها من لوث البشر ... لماذا ولماذا؟ هل أنت كائن حي تعي وتفهم إحتياجاتنا فتلبيها لنا وتساعدنا فيها؟

تقول النظريات العلمية الحديثة أن الحياة على كوكب الأرض خرجت منك من طحلبة بسيطة قذفت بها أمواجك على الشاطئ فهطل عليها ماء المطر من السماء فنبتت منها عائلات الأشجار المختلفة والنباتات ثم الحيوانات بأنواعها ... لماذا أنت أكبر شيئ على سطح هذا الكوكب؟ ... كم أنت عميق وهادئ وصاخب وملئ بالكنوز والأسرار والغموض أيها البحر!

محمد مصطفى

عم علوان

سافرت أمي مع أبي وأنا في الثالثة من عمري ليعمل في الخارج وتركاني أمانه عند جدتي

كانت سيدة من أصول ريفية وكانت تستيقظ قبل الفجر لتشعل وابور الجاز لتعد الشاي أبو لبن والإفطار لخالي وخالاتي قبل توجههم لمدارسهم وجامعاتهم وكنت أستمتع جدا بهذا المشهد وأحرص على ان أستيقظ قبل الجميع لأتابع بشغف عملية إشعال الوابور من أولها بينما تصدح إذاعة صوت العرب بأغنية "أمجاد يا عرب أمجاد" في الراديو فقط لأن التلفزيون (الأبيض والأسود) كان عطلان

في هذا السن المبكر كنت أخشى من العفاريت فكنت لا أتحرك في المنزل في الظلام إلا بصحبة جدتي

كان أكثر ما يسعدني في ذلك الوقت أن تحضر لي إحدى خالاتي عند عودتها عسلية أو بونبوني أو فنضام ولم أكن أعي من أين يحضرون هذه الحلويات الجميلة فلم أكن أتعرض كثيرا للعالم الخارجي ولم أكن أعرف شيئا عن الشراء من البائع أوالتعامل بالنقود

رحلة الصباح اليومية كانت مع جدتي إلى السوق لتشتري الخضار وإحتياجات المنزل اليومية ولشدة خوفي من العالم الخارجي كنت دائما أمسك بطرف ثوبها ولم أكن أفهم ما تقوله لهم أو كيف تعطيهم النقود ليعطوها بدلا منها الخضار والإحتياجات التي كانت تضعها في حقيبة غالبا ما كانت ثقيلة لدرجة إني لم أكن أستطيع أن أساعدها وأحملها لها

إلى أن جاء اليوم الذي تشجعت فيه قليلا وبدأت أنظر وأنتبه لما حولي بينما تشتري هي إحتياجاتها فلمحت عم علوان

هو رجل عجوز جدا وبصره ضعيف جدا وكان يجلس على حجر متوسط الحجم ساندا ظهره على الحائط نائما دائما في مكان يتوسط السوق وأمامه عربة صغيرة يبيع فيها قطع الحلوى والعسلية والبنبوني وكل ما كان يمكن أن يجذب إنتباه طفل ويشبط فيه

أنبهرت بمحتويات عربة عم علوان وبدأت أطلب من جدتي أن تتركني كل يوم واقفا أمام العربة اتأمل محتوياتها لأقرر ما الذي سأطلبه من جدتي أن تشتريه لي عندما تنتهي من تسوقها وتعود لتأخذني للمنزل وكانت رحمها الله تختصر بعضا من طلباتي لتحضر لي شيئا واحدا أو شيئين على الأكثر

من التكرار تعلمت مكان عم علوان وكنت أحيانا أزوغ من جدتي وأخبرها إني سألعب على سطح المنزل مع أبناء الجيران ثم أتسلل نازلا للشارع بمفردي سالكا طريقي لمكاني المفضل في العالم الخارجي وكنت أحرص على أن لا تعلم جدتي بهذه الرحلة وإلا سوف تمنعني من الخروج نهائيا خشية أن أتوه ولا أستطيع العودة للمنزل أو أن يخطفني اللصوص ...

كان عم علوان هذا شخصا غريب الأطوار بالنسبة لي ... فهو يرتدي نفس الملابس دائما ولا يغيرها وهي عبارة عن بيجامة كستور مقلمة وفوقها بلوفر كما يرتدي طاقية مصنوعة من نفس قماش البيجامه ... كان عندما يشتري أحدهم شيئا منه يأخذ البضاعة ويقربها جدا من عينيه اليمنى ليعلم ماذا سيبيع ثم يفعل نفس الشيئ مع النقود ليعلم كم أخذ وكم أعطى ... فقد كانت عينه اليسرى بيضاء ويبدو أنها لا ترى ... كان رجلا قليل الكلام جدا ولم أعلم له إي فرد من أفراد أسرته فلم يكن له بيت وإنما كان في المساء يقرب عربته من الحائط ثم ينام أسفلها متغطيا بلحاف رمادي يبدو أن لونه لم يكن كذلك في البداية ولكنه تغير بفعل تراب الشارع

رأيت عنده في مرة لعبة إسمها "يويو" وهي عبارة عن خيط مطاط مربوط في أخره كرة ورقية مغطاه بورق السليوفان وفي داخلها بعض الرمل أو نشارة الخشب بحيث يلقيها الطفل من يده بينما يمسك بطرف الخيط فتذهب بعيدا عنه ثم تعود فترتد إليه ... طلبت من عم علوان أن أخذ واحده لي فقال لي إن ثمنها تعريفة (يعني نصف قرش) وطبعا لم يكن معي إية نقود فقلت له أن يعطيها لي وسوف أطلب من جدتي أن تعطيه التعريفة غدا ولكنه رفض...

عدت إلى البيت وطلبت من جدتي أن تعطيني تعريفة فقالت لي وماذا ستعمل بالنقود؟ قلت لها أريد أن أشتري يويو ولكنها لم تفهم كثيرا ما أقوله ورفضت بحجة أنهم سينصبوا عليا ويأخذون مني النقود ...

كان يوم الجمعه وعندما أتصل أبي وأمي في المساء ليطمئنوا عليا طلبت منهم أن يخبرا جدتي أن تعطيني التعريفة لأشتري اليويو وأخبروها ولكنها برغم ذلك لم تعطني التعريفة

في الصباح كنت أجذبها من ملابسها تجاه عربة عم علوان لأريها اليويو الذي أريده فصرخت في وجهي رافضة أن تشتري لي اليويو بحجة إني زنان

وقفت حزينا في مكاني أنظر إلى اليويو وأخطط أن أحصل عليه بأي طريقة ... وفعلا إنتهزت فرصة إنشغال عم علوان وأخذت اليويو بدون أن يشعر بي وخبأته في جيبي وكنت ألعب به في البيت فقط حينما أكون بمفردي لكي لا تراه جدتي لأنها ستنهرني وتأخذه لترجعه إلى عم علوان

بعد ذلك بحوالي أربع سنوات تذكرت هذه الواقعه وعلمت أن مافعلته يسمى سرقة وأن هذا حرام وفي ذلك الوقت كان أبي يعطيني مصروفا يوميا قرشا كاملا لذلك كان المال قد توفر معي وقررت أن أصلح خطئي عن طريق دفع التعريفة إلى عم علوان

أنتهزت فرصة الأجازة الصيفية وكنا في زيارة لجدتي فنزلت من عندها وسرت لنفس المكان الذي تعود عم علوان أن يجلس فيه بعربته ولكني لم أجده ... لما سألت عليه بعض البائعين الأخريين قالو لي "تعيش إنته" !!!! مات عم علوان ...

محمد مصطفى