الخميس، 25 ديسمبر 2008

الكارت في القميص

حدث في أحد الإيام الخوالي - وذلك قبل زمن التليفون المحمول - أن رغبت في إدخال خط تليفون أرضي فوري ...وكان هذا لشقة سكنية بمنطقة الهرم. ونظرا لما أشتهر به هذا السنترال من كثرة الإزدحام وعدم توافر الخطوط لدرجة أنهم أخبروني أن قائمة الإنتظار طويلة جدا وتمتد إلى ثمانية سنوات مضت وذلك لطلب خط التليفون العادي, وإلى ثلاثة سنوات فقط إذا كنت محظوظا وتوافرت الخطوط وينبغي عليك دفع مبلغ ألف جنيه إضافية ويسمونه في هذه الحالة بالطلب المستعجل أو الخط الفورى (هذا أسم مجازي فقط ولم يكن له إي علاقة بسرعة الإستجابة أو فورية التركيب) ولكن نظرا للحاجة للتليفون وعدم توافر بدائل أخرى فقد جهزت الألف جنيه وبقية الأوراق المطلوبة كما حاولت الإستعانة بجميع الحيل والوسائل التي يمكن أن تسرع من تركيب الخط. وأعددت قائمة بهذه الحيل التي يتحلى بها الشاب المصري الذكي وكان من أبرزها تطبيق مبدأ تفتيح الدماغ وتمشية الحال...وكذلك وهو المهم البحث عن الواسطة المناسبة... وقد وفقني الله تعالى إلى أن إستطعت أن أحصل من أحد أقاربي الواصلين على كارت من الكروت التى تفتح لها الأبواب المغلقة وموجها لمدير سنترال الهرم شخصيا .... طرت من الفرح بهذا الكارت ولم أتوقف كثيرا عندما سمعت قريبي يقول لي "مش هتحتاجه" !! ولكن سرعان ما أدركت ماذا كان يعني بهذه الكلمة !


ذهبت في اليوم الموعود مبكرا بعد أن أخذت أجازة من عملي وقد حشدت في جيوبي كميات من الجنيهات السائبة وبعض الفكة لزوم مبدأ تفتيح الدماغ وتمشية الحال وقد وضعت الكارت في جيب القميص كما دفعته قليلا لأعلى ليكون أول ما تقع عليه عين من يراني وبالتالي يفتح لي مغاليق الأبواب..... وقد لاحظت خلوا نسبيا في المكان من الجمهور مما دفعني لأن أشك هل اليوم عطلة مثلا أو السنترال مغلق للصيانة؟ !!! أين ذهب هذا الإزدحام الرهيب والطوابير التي كانت تمتد أحيانا بطول المئات من الأمتار خارج السنترال....قلت في نفسي على إي حال يبدو أني محظوظا اليوم ولن أضطر كثيرا للوقوف بالطوابير... ثم أخذت طريقي إلى داخل المبنى حيث قاعة المعاملات وأخذت أتلفت يمنة ويسرى لأرى أين سأقدم الطلب... ووجدت أحد السعاة قريبا مني فسألته أين أقدم طلب الفوري؟ وقبل أن أكمل سؤالي وجدته يشير بيديه إلى طرقة صغيرة تؤدي إلى غرفة كبيرة وقد وضعت عليها لافتة مكتوب عليها "مدير السنترال" ... تعجبت من أمر هذا الساعي الفطن الذي لم يمهلني لكي يسمع بقية سؤالي وعرف بسرعة أن مقصدي هو المدير... هل لمح الكارت في القميص مثلا؟ وهل قرأء بسرعة التوصية التي عليه؟ كم هم أزكياء هؤلاء السعاة!


دخلت حجرة المدير وبدأت أتلفت لأري أين المدير ولاحظت بعض الزحام في هذه الغرفة فأدركت أن السنترال غير معطل اليوم فهذا الجمهور يعني أن السنترال يعمل فأطمئن قلبي ومما ذادني طمأنينة أني سمعت أحد السعاة يصيح على ويقول "أقف في الطابور يا أستاذ" فأدركت على الفور أن هذه هي البداية الصحيحة. فتوجهت اليه على مهل ورفعت الكارت لكي يبرز أكثر من القميص حتى كاد أن يقع على الأرض... ثم دسست يدي في جيبي في حركة مشهورة يفهم مغزاها ولاد البلد وتعني أني شاب مفتح وبحب أمشي أموري.... ثم ملت على أذنه بصوت خفيض قائلا "عاوز أقابل المدير"...فوجئت به يصيح بأعلى صوته (رغم قربي الشديد منه) قائلا "ماهو كل اللي قدامك دول عاوزين يقابلوه" في حركة مسرحية وكأنه ينفي عن نفسه تهمة...ثم عاجلني قائلا "يلا أقف في الطابور بسرعة متعطلناش" ...ولم أجد حينها بدا من الإنصياع لأوامره الحادة ..فلملمت ما بقى لي من كرامة ودفعت الكارت حتى أختفى في جيب القميص تماما ثم إنسحبت منكسرا لأخر الطابور وأخذت مكاني وأهبت نفسي للإنتظار.... ويبدوا أن منظري حينها كان يدعو للشفقة مما دعا سيدة عجوزا كانت تقف أمامي لأن تلتفت لي وتطيب خاطري بكلمتين وقالت لي "ما تقلقش يابني كلها عشر دقائق" فقلت في نفسي " خلاص اليوم كده طار...عشر دقائق من بتوعهم مش أقل من ست ساعات من بتوع الساعة!" وشكرت السيدة بأبتسامة وقلت لها "ربنا يسهل يا حاجة"....


وتبين لي بعد ذلك أن السيدة لم تكن تحاول أن تطيب خاطري فقط أو تقول إي كلام فما هي إلا بضع دقائق فعلا ووجدتني أمام مكتب المدير.... رفعت الكارت جدا وأصلحت هندام ملابسي.... ورسمت على وجهي إبتسامة عريضة وقلت له "صباح الخير يا فندم" وأخرجت الكارت من جيبي ووضعته على ملف طلبي وسلمته له.... لاحظت أنه لم يأخذ باله من الكارت وفتح الملف وبدأ يراجع الأوراق ثم رفع رأسه لي وسألني "معاك الفلوس؟" قلت له "جاهز يا باشا" فنادى على أحد الموظفين وقال له" يا أحمد تطلع مع الباشمهندس توصله الخط فورا وتكلمني تطمني من هناك" ثم سألني "معاك عربية؟" قلت له "أيوه يا باشا" فقالي "ممكن ترجعهولي على طول؟"ويقصد أحمد فقلت له "طبعا يا باشا !" تم هذا كله وسط زهول شديد مني وربما عدم إستيعاب الأحداث جيدا...ماهذه المعجزة التي حدثت اليوم بحيث أذا صدق هذا الرجل سيدخل الخط والحرارة للتيلفون في شقتي في خلال سويعات قليلة؟ !!! وما الذي دفع هذا الرجل ليفعل ذلك معي؟ أقسم أنه لم يرى الكارت وأنه إنزلق من على الملف إلى طاولة المكتب وتبين لي بعد ذلك أن هذا كان من حسن حظي لأنه لو كان رءاه لكانت مشكلة كبيرة جدا, فهذا الرجل لايحب الواسطة أو المحسوبية وتبين لي أيضا أن هذا مايتم مع كل من يقف في الطابور أيضا حتى لو لم يكن معه إي كروت!!. وبالفعل دفعت جميع المصاريف وأكملت تقديم الأوراق في الشبابيك المخصصة بالصالة وأحمد إلى جواري وأحضر العدة من الخزن وأخذ عاملا معنا لتمديد الإسلاك وخلافه وأنطلقنا إلى الشقة وماهي إلا ساعة زمان وكانت في شقتي مايسمى بالتليفون الفوري ولكن الأسم هذه المرة كان على مسمى حقا!!!


ونحن في طريق العودة تجاذبت أطراف الحديث مع أحمد والعامل وحينما أبديت لهم تعجبي من أنتهاء اللإجراءات والتركيب وتوصيل الحرارة بهذه السرعة وأن هذا لم يكن يحدث من قبل ....أخبراني "أن ده بيحصل مع كل الناس دلوقتي ....اللي عايز الفوري بيدخله في نفس اليوم" يبدوا أن جميع مشاكل سنترال الهرم قد حلت !! "الراجل ده كويس قوي... عنده ضمير وربنا يباركله" وأنه في خلال فترة قصيرة جدا أستطاع أن يحل مشكلة سنترال الهرم وطبق قانون عدم إدخال أكثر من خط منزلي للشخص بمنتهى الحسم وأتضح أنه كانت هناك عدد كبير من الخطوط المحجوزة والمنسية والمخصصة للمعارف ولكبارات البلد ولكن الرجل لغى كل هذا وطور معدات وتجهيزات السنترال بحيث تضاعفت عدد الخطوط في مدة ثلاثة أشهر فقط! مما سمح بتخفيض قائمة الإنتظار للناس وفعلا أستطاع الناس العاديين "اللي مالهومش واسطة أن يكون عندهم خط تليفون من نفسهم"... هذا علاوة على حسمه الشديد في التعامل مع الموظفين المتسيبين والمستهترين مما لغى تكدس الجمهور على شبابيك المتعاملين, وطبعا لم يعد هناك شيئ يسمى رشوة أو إكرامية لدرجة أن العامل رفض بشدة أن يأخذ مني عشرة جنيهات (حلاوة الخط) أردت أن أدسهم في جيبه... وقالي "يا بيه الراجل الجديد ده مخلينا مش عايزين حاجة دا أحنا دلوقت بيصرف لينا علاوات عمرها ما حصلت من ساعة ما أشتغلت في الهيئة!"


وقفت كثيرا عند هذه القصة وطالما تذكرتها كلما أحتجت لتخليص بعض الإجراءات في إحدى الجهات الحكومية وكلما وقفت في طابور على شباك أحد الموظفين الذين لم يلتزموا بعد.... كنت دائما أقول أن رجل واحد قدر يصلح سنترال كامل كان بايظ...لسه فيه أمل أن الحال ينصلح في البلد كلها... الراجل معملش حاجة غير أنه شاف الفساد كان بيجي منين وحاول يسد عليه كل باب... فتح بابه للناس وبيحل مشاكلهم بنفسه...الموظفين بيخافوا منه وبيعملولوا الف حساب وما ينفعش موظف يسيب الناس ملطوعة أدامه وهوا بيتكلم في التيفون أو لسه بيفطرمثلا.... اللي بيشتغل منهم كويس بيصرفة علاوات مشجعة جدا وتخليه مش محتاج لرشوة أو لأى فلوس حرام.... بيتعامل مع الناس بإحترام أصلهم مش عبيد عنده....أول واحد بيدخل السنترال الساعة ستة الصبح وأخر واحد بيطلع منه..... ياه أنا لو أقعد أحكي عن الراجل ده من هنا لبكرة مش هعرف أوفيه حقه اللي شفته بعيني واللي أتحكالي عنه...فعلا ربنا يكرمه ويكتر من أمثاله....


.سرحت بخيالي شوية وقلت ياترى إيه اللي ممكن يحصل في البلد لو كل مسئول عن مصلحة حكومية كان زي الراجل ده؟ لو راجل واحد يعرف يصلح نفسه ويصلح اللي معاه.... ياه دي كانت البلد كلها أنصلح حالها وكنا شربنا ميه غير الميه وأتنفسنا هوا غير الهوا ومشينا في شوارع غير الشوارع.... ياه دا كان ممكن تشوف الناس ماشية بتبسم لبعض في الطريق وفي المواصلات ويمكن كمان كانت مشكلة المرور والإزدحام إتحلت والعمران أتسع والمشاريع الزراعية والصناعية كبرت وإمتدت وكان الشباب العاطل لقوا شغل والبنات إتجوزت وكان كمان العيال بيتعلموا في المدارس.... ياه دا كان زمان السلع أتوفرت والأسعار إنخفضت والمرتبات ذادت والضرائب أتلغت والمغتربين رجعوا والأسر أتلم شملها وكانت الناس تعيش في رفاهية وفي راحة بجد..... كل ده كان ممكن يحصل.... تصدقوا أه .... لو حاربنا الفساد لو الناس بطلت رشوة ومحسوبية لو الناس راعت ضميرها وأتقت ربها لو كل واحد بطل أنانية وجشع وفكر إزاي ممكن يبدع في عمله وينتج.... ساعتها بس هتشوف بلد غير البلد وناس غير الناس.


بيصعب عليا جدا أن للأسف الناس مش فاهمه أهمية ده وكل واحد بيقولك وأنا مالي ما هو النظام كله كده...يعني أنا اللي هصلح الكون؟ ولا هيا جت عليا ووقفت! ياعم خلينا نسترزق ....أصل الحياة بقت صعبة وتكاليف المعايش ياما دلوقتي... طب يا إخوانا ماهو أنتم اللي مصعبينها على نفسكم وأنتم اللي مغلين الأسعار كمان... فين الرجالة اللي بجد؟ فين الضمير وفين الأخلاق.... منفسكش تاكل لقمة حلال ويكون ضميرك مرتاح؟ حارب الفساد بكل قوتك... حاربه حتى لو الحرب ضده طولت ولو حتى مش عشانك إنما عشان ولادك وأحفادك يتولدوا في جو أحسن مننا ويدعولنا أننا أنقذناهم لحسن لو العملية أستمرت بالشكل ده مش عارف هترسى على إيه وساعة لما العيال تكبر عيعرفوا يعيشوا ولا هيعملوا إيه؟ !!! ربنا يكون في عونا وعونهم.....


بقارن مابين بلدي دلوقتي وبين بعض البلاد العربية في الخليج تحديدا حيث أني مقيم منذ مدة في الأمارات وبصراحة ماشاء الله بجد على النظام والأمان والنظافة والمرور والإحترام والقواعد وكل حاجة جميلة....بقول أن ده إذا كان بيحصل في دولة عربية لسة ناشئة من كام سنة بس وربنا يوفقهم كمان وكمان...طب مش أولى أن ده يحصل في بلدي اللي هيا أم الدنيا وحضارتها اللي علمت العالم كله؟ !!! نفسي يجي اليوم اللي يتعامل فيه المواطن المصري بكل إحترام زيه زي إي مواطن في دولة متحضرة. نفسي يجي اليوم اللى تدخل فيه إي مصلحة حكومية أو حتى قطاع خاص وتخلص معاملتك في خمس دقائق أو عشرة بالكتير. هل ده بعيد في عصر الكمبيوتر والحكومة الإلكترونية...

ربنا يصلح الحال

ليست هناك تعليقات: